عرض مشاركة واحدة
قديم 04-11-2006, 11:00 PM
المشاركة 8
الوسيط
عضو أمتعنا وجوده
  • غير متواجد
بسم الله الرحمن الرحيم
حضرة صاحب المعالي أخي المكرم الشيخ محمد الأمين بن الشيخ محمد الخضر حفظه الله ووفقه السلام عليكم ورحمة الله تعالي وبركاته ، وبعد :
فقد وصلنا خطابكم الكريم بتاريخ 23/ 4/1389هـ وفهمنا ماسألتم عنه والجواب ، حفظكم الله ووفقكم ، عن المسألة الأولى التي هي محل العقل هــو ما تراه ، ولا يخفى على معاليكم أن بحث العقل بحث فلسفي قديم ، وللفلاسفة فيه مائة طريق باعتبارات كثيرة مختلفة ، غالبها كله تخمين وكذب وتخبط في ظلام الجهل ، وهم يسمون الملائكة عقولاً ويكثرون البحث في العقول العشرة المعروفة عندهم ويزعمون أن المؤثر في العلم هو العقل الفياض وأن نوره ينعكس على العالم كما تنعكس الشمس على المرآة فتحصل تأثيراته بذلك الانعكاس ، ويبحثون في العقل البسيط الذي يمثل به المنطقيون للنوع البسيط ، إلى غير ذلك من بحوثهم الباطلة المتعلقة بالعقل من نواح شتى ، ومن تلك البحوث قول عامتهم إلا القليل منهم ، إن محل العقل الدماغ – وتبعهم في ذلك قليل من المسلمين ، ويذكر عن الإمام أحمد أنه جاءت عنه رواية بذلك . وعامة علماء المسلمين على أن محل العقل القلب ، وسنوضح إن شاء الله تعالى حجج الطرفين ونبين ما هو الصواب في ذلك.

أعلم وفقنا الله وإياك ، إن العقل نور روحاني تدرك به النفس العلوم النظرية والضرورية ، وإن من خلقه وأبرزه من العدم إلى الوجود ، وزين به العقلاء وأكرمهم به أعلم بمكانه الذي جعله فيه من جهلة الفلاسفة الكفرة الخالية قلوبهم من نور سماوي وتعليم إلهي ، وليس أحد بعد الله أعلم بمكان العقل من النبي صلى الله علية وسلم الذي قال في حقه ( ماينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحي ) وقال تعالى عن نفسه ( أأنتم أعلم أم الله ) والآيات القرآنية والأحاديث النبوية في كل منهما التصريح بكثرة أن محل العقل القلب ، وكثرة ذلك وتكراره في الوحيين لا يترك احتمالاً ولاشك في ذلك ، وكل نظر عقلي صحيح يستحيل أن يخالف الوحي الصريح ، ونذكر طرفاً من الآيات الكثيرة الدالة على ذلك وطرفاً من الأحاديث النبوية ، ثم نبين حجة من خالف الوحي من الفلاسفة ومن تبعهم ونوضح الصواب في ذلك إن شاء الله تعالى وأعلم أولاً أنه يغلب في الكتاب والسنة إطلاق القلب وإرادة العقل وذلك أسلوب عربي معروف لأن من أساليب اللغة العربية إطلاق المحل وإرادة الحال فيه كعكسه والقائلون بالمجاز يسمون ذلك الأسلوب العربي مجازاً مرسلاً ، ومن علاقات المجاز المرسل عندهم المحلية والحالية كإطلاق القلب وإرادة العقل لأن القلب محل العقل وكإطلاق النهر الذي هو الشق في الأرض على الماء الجاري فيه كما هو معلوم في محله .
وهذه بعض نصوص الوحيين قال تعالى ( ولقد ذرأنا لجهنم كثيراً من الجن والإنس لهم قلوب لا يفقهون بها ) الآية ، فعابهم الله بأنهم لا يفقهون بقلوبهم ، والفقه الذي هو الفهم لا يكون إلا بالعقل ، فدل ذلك على أن القلب محل العقل ، ولو كان الأمر كما زعم الفلاسفة لقال لهم أدمغه لا يفقهون بها .
وقال تعالي ( أفلم يسيروا في الأرض فتكون لهم قلوب يعقلون بها أو أذان يسمعون بها فإنها لا تعمى الأبصار ولكن تعمى القلوب التي في الصدور ) ولم يقل فتكون لهم أدمغه يعقلون بها ، ولم يقل ولكن تعمى الأدمغه التي في الرؤوس كما ترى ، فقد صرح في آية الحج هذه بأن القلوب هي التي يعقل بها وما ذلك إلا لأنها محل العقل كما ترى ثم أكد ذلك تأكيداً لا يترك شبهة ولا لبساً فقال تعالى ( ولكن تعمى القلوب التي في الصدور ) فتأمل قوله التي في الصدور تفهم مافيه من التأكيد والإيضاح ومعناه أن القلوب التي في الصدور هي التي تعمى إذا سلب الله منها نور العقل فلا تميز بعد عماها بين الحق والباطل ولا بين الحسن والقبيح ولا بين النافع والضار وهو صريح بأن الذي يميز به كل ذلك وهو العقل ومحله في القلب .
وقال تعالى ( يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم ) ولم يقل بدماغ سليم وقال تعالى ( ختم الله على قلوبهم ) الآية ولم يقل على أدمغتهم وقال تعالى ( إنا جعلنا على قلوبهم أكنة أن يفقهوه ) الآية ومفهوم مخالفة الآية أنه لو لم يجعل الأكنة على قلوبهم لفقهوه بقلوبهم وذلك لأن محل العقل القلب كما ترى ، ولم يقل أنا جعلنا على أدمغتهم أكنه أن يفقهوه . وقال تعالى ( إن في ذلك لذكري لمن كان له قلب ) الآية ، ولم يقل لمن كان له دماغ وقال تعالى ( ثم قست قلوبكم من بعد ذلك ) الآية ، ولم يقل ثم قست أدمغتكم وكون القلب إذا قسا لم يطع صاحبه الله وإذا لان أطاع الله ، دليل على أن المميز الذي تراد به الطاعة والمعصية محله القلب كما ترى وهو العقل .
وقال تعالى ( فويل للقاسية قلوبهم من ذكر الله ) الآية ، وقال تعالى ( فطال عليهم الأمد فقست قلوبهم ) الآية ، ولم يقل فويل للقاسية أدمغتهم ولم يقل فطال عليهم الأمد فقست أدمغتهم وقال تعالى ( أفرأيت من أتخذ ألهه هواه وأضله الله على علم وختم على سمعه وقلبه ) الآية ، ولم يقل وختم على سمعه ودماغه وقال تعالى ( وأعلموا أن الله يحول بين المرء وقلبه ) الآية ، ولم يقل ودماغه ، وقال تعالى ( يقولون بألسنتهم ما ليس في قلوبهم ) الآية ولم يقل ما ليس في أدمغتهم وقال تعالى ( فالذين لا يؤمنون بالآخرة قلوبهم منكرة ) الآية ولم يقل أدمغتهم منكرة وقال تعالى حتى إذا فزع عن قلوبهم ) الآية ولم يقل ، إذا فزع عن أدمغتهم وقال تعالى ( أفلا يتدبرون القرآن أم على قلوب أقفالها ) الآية ولم يقل أم على أدمغه أقفالها وأنظر ما أصرح آية القتال هذه في أن التدبر وأدراك المعاني به إنما هو القلب ولو جعل على القلب قفل لم يحصل الإدراك فتبين أن الدماغ ليس هو محل الإدراك كما ترى ، وقال تعالى ( فلما زاغوا أزاغ الله قلوبهم ) ولم يقل أزاغ الله أدمغتهم وقال تعالى ( ألا بذكر الله تطمئن القلوب ) ولم يقل تطمئن الأدمغة - وقال تعالى ( إنما المؤمنون الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم ) ولم يقل وجلت أدمغتهم ، والطمأنينة والخوف عند ذكر الله كلاهما إنما يحصل بالفهم والإدراك ، وقد صرحت الآيات المذكورة بأن محل ذلك القلب لا الدماغ وبين في آيات كثيرة أن الذي يدرك الخطر فيخاف منه هو القلب الذي هو محل العقل لا الدماغ ، كقوله تعالى ( وإذ زاغت الأبصار وبلغت القلوب الحناجر ) الآية وقوله تعالى ( قلوب يومئذ واجفه الآية ، وإن كان الخوف تظهر آثاره على الإنسان ، وقال تعالى ( أولم يهد للذين يرثون الأرض من بعد أهلها أن لو نشاء أصبناهم بذنوبهم ونطبع على قلوبهم ) ولم يقل ونطبع على أدمغتهم ، وقال تعالى ( وربطنا على قلوبهم إذ قاموا ) الآية وقال تعالى ( إن كادت لتبدي به لولا أن ربطنا على قلبها ) والآيتان المذكورتان فيهما الدلالة على أن محل إدراك الخطر المسبب للخوف هو القلب كما ترى لا الدماغ والآيا ت الواردة في الطبع على القلوب متعددة كقوله تعالى ( ذلك بأنهم أمنوا ثم كفروا فطبع على قلوبهم ) الآية ولم يقل فطبع على أدمغتهم ، وكقوله تعالى ( رضوا بأن يكونوا مع الخوالف فطبع على قلوبهم ) الآية ولم يقل على أدمغتهم وقال تعالى ( إلا من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان ) الآية والطمأنينة بالإيمان إنما تحصل بإدراك فضل الإيمان وحسن نتائجه وعواقبه وقد صرح في هذه الآية بإسناد ذلك اطمئناناً إلى القلب الذي هو محل العقل الذي هو أداة النفس في الإدراك ولم يقل ودماغه مطمئن بالإيمان .
وقال تعالى ( قالت الأعراب أمنا قل لم تؤمنوا ولكن قولوا أسلمنا ولما يدخل الإيمان في قلوبكم ) ولم يقل في أدمغتكم – وقال تعالى ( أولئك كتب في قلوبهم الإيمان وأيدهم بروح منه ) فقوله ولما يدخل الإيمان في قلوبكم ، وقوله كتب في قلوبهم الإيمان ، صريح في أن المحل الذي يدخله الإيمان في المؤمن وينتفـــي عنه دخوله في الكافر إنما هو القلب لا الدماغ ، وأساس الإيمان إيمان القلب لأن الجوارح كلها تبع له كما قال صلى الله عليه وسلم ( إن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله وإذا فسدت فسد الجسد كله ألا وهى القلب ) فظهر بذلك دلالة الآيتين المذكورتين على أن المصدر الأول للإيمان القلب فإذا آمن القلب آمنت الجوارح بفعل المأمورات وترك المنهيات لأن القلب أمير البدن ، وذلك يدل دلالة واضحة على أن القلب ما كان كذلك إلا لأنه محل العقل الذي به الإدراك والفهم كما ترى .
وقال تعالى ولا تكتموا الشهادة ومن يكتمها فإنه آثم قلبه ) الآية ، فأسند الإثم بكتم الشهادة للقلب ولم يسنده للدماغ ، وذلك يدل على أن كتم الشهادة الذي هو سبب الإثم واقع عن عمد وأن محل ذلك العمد القلب وذلك لأنه محل العقل الذي يحصل به الإدراك وقصد الطاعة وقصد المعصية كما ترى . وقال تعالى في حفصة وعائشة رضي الله عنهما ( إن تتوبا إلى الله فقد صغت قلوبكما ) أي مالت قلوبكما إلى أمر تعلمان أنه صلى الله عليه وسلم يكرهه ، سواء قلنا أنه تحريم شرب العسل الذي كانت تسقيه إياه إحدى نسائه ، أو قلنا أنه تحريمه جاريته ماريه ، فقوله صغت قلوبكما أي مالت يدل على أن الإدراك وقصد الميل المذكور محله القلب ، ولو كان الدماغ ، لقال فقد صغت أدمغتكما كما ترى ولما ذكر كل من اليهود والمشركين أن محل عقولهم هو قلوبهم قررهم الله على ذلك لأن كون القلب محل العقل حق ، وأبطل دعواهم من جهة أخرى وذلك يدل بإيضاح على أن محل العقل القلب أما اليهود لعنهم الله ، فقد ذكـر الله ذلك بمنعهم في قوله تعالى ( وقالوا قلوبنا غلف ) فقال تعالى ( بل طبع الله عليها بكفرهم ) فقولهم قلوبنا غلف بسكون اللام يعنون أن عليها غلافاً أي غشاءً
يمنعها من فهم ما تقول ، فقررهم الله على أن قلوبهم هي محل الفهم والإدراك لأنها محل العقل ولكن كذبهم في ادعائهم أن عليها غلافاً مانعاً من الفهم ، فقال على سبيل المثال الإضراب الابطالي ( بل طبع الله عليها بكفرهم ) الآية أما على قراءة ابن عباس قلوبنا غلف بضمتين يعنون أن قلوبهم كأنها غلاف محشو بالعلوم والمعارف فلا حاجة لنا إلى ما تدعوننا إليه ، وذلك يدل على علمهم بأن محل العلم والفهم القلوب لا الأدمغة ... وأما المشركون فقد ذكر الله ذلك عنهم في قوله تعالى .. ( وقالوا قلوبنا في أكنة مما تدعون إليه وفي آذاننا وقر ومن بيننا وبينك حجاب ) الآية ، فكانوا عالمين بأن محل العقل القلب ولذا قالوا قلوبنا في أكنه مما تدعونا إليه ، ولم يقولوا أدمغتنا في أكنه مما تدعونا إليه ، والله لم يكذبهم في ذلك ولكنه وبخهم على كفرهم بقوله ( قل أئنكم لتكفرون بالذي خلق الأرض في يومين ) الآية . وهذه الآيات التي أطلق فيها القلب مراداً به العقل لأن القلب هو محله ، أوضح الله المراد منها بقوله ( أفلم يسيروا في الأرض فتكون لهم قلوب يعقلون بها ) فصرح بأنهم يعقلون بالقلوب وهو يدل على أن محل العقل القلب دلالة لا مطعن فيها كما ترى – وقال تعالى ( إن يشأ الله يختم علـى قلبك ) ولم يقل يختم على دماغك – وقال تعالى ( قل أرأيتم إن أخذ الله سمعكم وأبصاركم وختم على قلوبكم من إله غير الله يأتيكم به ) الآية ، ولم يقل وختم على أدمغتكم وقال تعالى في النحل ( أولئك الذين طبع الله على قلوبهم وسمعهم وأبصارهم وأولئك هم الغافلون ) الآية ، وقال تعالى ( أولئك الذين أمتحن الله قلوبهم للتقوى ) الآية ولم يقل أمتحن أدمغتهم . وقال تعالى ( ولكن الله حبب إليكم الإيمان وزينه في قلوبكم ) الآية والآيات بمثل هذا كثيرة ، ولنكتف منها بما ذكرنا خشية الإطالة المملة .
وأما الأحاديث المطابقة للآيات التي ذكرنا الدالة على أن محل العقل القلب فهي كثيرة جداً كالحديث الصحيح الذي ذكر والذي فيه ألا وهى القلب ، ولم يقل فيه ألا وهى والدماغ وكقوله صلى الله عليه وسلـم ( يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك ) ولم يقل يا مقلب الأدمغة ثبت دماغي على دينك ، وكقوله صلى الله علية وسلم ( قلب المؤمن بين أصبعين من أصابع الرحمن ) وهو من أحاديث الصفات ولم يقل دماغ المؤمن إلخ . والأحاديث بمثل هذا كثيرة جداً فلا نطيل بها الكلام .
وقد تبين مما ذكرنا أن خالق العقل وواهبه للإنسان بين في آيات قرآنية كثيرة أن محل العقل القلب ، وخالقه أعلم بمكانه من كفرة الفلاسفة ، وكذلك رسوله صلى الله عليه وسلم كما رأيت أما عامة الفلاسفة إلا القليل النادر منهم فإنهم يقولون أن محل العقل الدماغ وشذت طائفة من متأخريهم فزعموا أن العقل ليس له مركز مكاني في الإنسان أصلاً وإنما هو زماني محض لا ما كان له ، وقول هؤلاء أظهر سقوطاً من أن نشتغل بالكلام عليه . ومن أشهر الأدلة التي يستدل بها القائلون أن محل العقل الدماغ هو أن كل شيئ يؤثر في الدماغ يؤثر في العقل ، ونحن لا ننكر إن العقل قد يتأثر بتـأثير الدماغ ولكن نقول بموجبه ، فنقول سلمنا أن العقل قد يتأثر بتأثر الدماغ ولكن لا نسلم أن ذلك يستلزم أن محله الدماغ ، وكم من عضو من أعضاء الإنسان خارج عن الدماغ بلا نزاع وهو يتأثر بتأثر الدماغ كما هو معلوم ، وكم من شلل في بعض أعضاء الإنسان ناشئ عن اختلال واقع في الدماغ ، فالعقل خارج عن الدماغ ولكن سلامته مشروطة بسلامة الدماغ كالأعضاء التي تختل باختلال الدماغ فإنها خارجة عنه مع أن سلامتها مشروطة فيها سلامة الدماغ كما هو معروف . وإظهار حجة هؤلاء والرد عليها على الوجه المعروف في آداب البحث والمناظرة أن حاصل دليلهم أنهم يستدلون بقياس منطقي من الشرطي المتصل المركب من شرطية متصلة لزومية واستثنائية يستثنون فيه نقيض التالي فينتج لهم في زعمهم دعواهم المذكورة التي هي نقيض المقدم ، وصورته أنهم يقولون لو لم يكن العقل في الدماغ لما تأثر بكل مؤثر على الدماغ لكنه يتأثر بكل مؤثر على الدماغ ، ينتج العقل في الدماغ – وهذا الاستدلال مردود بالنقض التفصيلي الذي هو المنع وذلك بمنع كبراه التي هى شرطيته فنقول المانع منع قولك لو لم يكن العقل في الدماغ لما تأثر بكل مؤثر في الدماغ بل هو خارج عن الدماغ مع أنه يتأثر بكل مؤثر على الدماغ كغيره من الأعضاء التي تتأثر بتأثر الدماغ ، فالربط بين التالي والمقدم غير صحيح ، والمحل الذي يتوارد عليه الصدق والكذب في الشرطية إنما هو الربط بين مقدمها وتاليها ، فإن لم يكن الربط صحيحاً ، كانت كاذبة ، والربط في قضيتهم المذكورة كاذب ، فظهر بطلان دعواهم . وهناك طائفة ثالثة أرادت أن تجمع بين القولين فقالت : إن مادل عليه الوحي من كون محل العقل هو القلب صحيح ، وما يقوله الفلاسفة ومن وافقهم من أن محله الدماغ صحيح أيضاً ، فلا منافاه بين القولين ، قالوا : ووجه الجمع أن العقل في القلب كما في القرآن والسنة ولكن نوره يتصاعد من القلب فيتصل بالدماغ وبواسطة اتصاله بالدماغ يصدق عليه أنه في الدماغ من غير منافاه لكون محله هو القلب ، قالوا : وبـهذا يندفع التعارض بين النظر العقلي الذي زعمه الفلاسفة وبين الوحي وأستدل بعضهم لهذا الجمع بالاستقراء غير التام وهو المعروف في الأصول بإلحاق الفرد بالغالب وهو حجة ظنية عند جماعة من الأصوليين وعليه أشار صاحب مراقي السعود في كتاب الاستدلال في الكلام على أقسام الاستقراء بقوله :
وهو لدى البعض إلى الظن انتسب ... يشمى لحوق الفرد بالذي غلب
ومعلوم أن الاستقراء هو تتبع الإفراد حتى يغلب على ظنه أن ذلك الحكم مطرد في جميع الإفراد ، وإيضاح هذا أن القائلين بالجمع المذكور بين الوحي وأقوال أهل الفلسفة في محل العقل ، قالت جماعة منهم دليلنا على هذا الجمع الاستقراء غير التام ، وذلك أنهم قالوا تتبعنا أفراد الإنسان الطويل العنق طولاً مفرطاً زائداً على المعهود زيادة بينة ، فوجدنا كل طويل العنق طولاً مفرطاً ناقص العقل وذلك لأن طول العنق طولاً مفرطاً يلزمه بعد المسافة بين طريق نور العقل الكائن في القلب وبين المتصاعد منه إلى الدماغ ، وبعد المسافة بين طرفيه قد يؤدي إلى عدم تماسكه واجتماعه فيظهر فيه النقص ، وهذا الدليل كما ترى ، ليس فيه مقنع وإن كان يشاهد مثله في الخارج كثيراً ، فتحصل من هذا أن الذي يقول أن العقل في الدماغ وحده وليس في القلب منه شيئ أن قوله في غاية البطلان لأنه مكذب لآيات وأحاديث كثيرة كما ذكرنا بعضه ، وهذا القول لا يتجرأ عليه مسلم إلا إن كان لا يؤمن بكتاب الله ولا بسنة رسوله صلى الله عليه وسلم وهو إن كان كذلك ليس بمسلم ومن قال أنه في القلب وحده وليس في الدماغ منه شيئ فقوله هو ظاهر كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم ولم يقم دليل جازم قاطع من نقل ولا عقل على خلافه ، ومن جمع بين القولين فقوله جائز عقلاً ولا تكذيب فيه للكتاب ولا للسنة ولكنه يحتاج إلى دليل يجب الرجوع إليه ، ولا دليل عليه من النقل فإن قام عليه دليل من عقل أو استقراء يحتج به فلا مانع من قبوله ، والعلم عند الله تعالى ، وهذا ما يتعلق بالمسألة الأولى .



من فتاوي فضيلة الشيخ
محمد الأمين بن محمد المختار الجَكَنيُ الشنقيطي


المصدر - تفضل بالدخول

إن الأدب الحقيقي الذي يرفع قدر صاحبه هو أن يتأدب المرء مع مولاه جل وعلا ويتتبع رضاه ويبتعد عن ما يسخطه هنالك يكون أديبا ومؤدبا أما غير ذلك فلا وألف لا ...
الوسيط