الموضوع: حدائق الموت
عرض مشاركة واحدة
قديم 30-12-2011, 05:10 PM
المشاركة 2

 

  • غير متواجد
رد: حدائق الموت
ولأجل ذلك .. فالصالحون يشتاقون إلى لقاء ربهم .. ويعدون الموت جسراً يعبرون عليه
إلى الآخرة ..
نعم .. يفرحون بالموت ما دام يقربهم إلى ربهم ..
ذكر بعض المؤرخين ..
أن العدو أغار على ثغر من ثغور الإسلام .. فقام عبد الواحد بن زيد وكان خطيب البصرة
وواعظها .. فحث الناس على البذل والجهاد .. ووصف ما في الجنة من نعيم .. ثم وصف
الحور العين .. وقال :
غــادة ذات دلال ومرح
خلقت من كل شيء حسن
أترى خاطبها يسمعها
يا حبيباً لست أهوى غيره
لا تكونن كمن جدّ إلى
لا فما يخطب مثلي من سها يجد الواصف فيها ما اقترح
طيب فالليت عنها مطرح
إذ تدير الكأس طوراً والقدح
بالخواتيم يتم المفتتح
منتهى حاجته ثم جمح
إنما يخطب مثلي من ألحَّ
فاشتاق الناس إلى الجنة .. وارتفع بكاء بعضهم ..ورخصت عليهم أنفسهم في سبيل الله ..
فوثبت عجوز من بين النساء .. هي أم إبراهيم البصرية ..
وقالت :
يا أبا عبيد .. أتعرف ابني إبراهيم !
الذي يخطبه رؤساء أهل البصرة .. إلى بناتهم .. وأنا أبخل به عليهن ..
قد والله أعجبتني هذه الجارية وقد رضيتها عروساً لابني إبراهيم .. فكرر ما ذكرت من
أوصاف .. لعله يشتاق ..

فقال أبو عبيد :
إذا ما بدت والبدر ليلة تمـــه رأيت لها فضـــلا مبينا على البدر
وتبسم عن ثغر نقى كـــأنه من اللؤلؤ المكنون في صــدف البحر
فلو وطئت بالنعل منها على الحصى لأزهــرت الأحجار من غير ما قطر
ولو شئت عقد الخصر منها عقدته كغصن من الريحان ذي ورق خضـر
ولو تفلت في البحر حلو لعابهـا لطاب لأهل البر شرب من البحــر
أبى الله إلا أن أموت صبــابة بساحرة العينين طيبـــــة النشر
فاضطرب الناس ..وكبروا ..
وقامت أم إبراهيم .. وقالت :
يا أبا عبيد .. قد والله رضيت بهذه الجارية .. زوجة لإبراهيم ..
فهل لك أن تزوجها له في هذه الساعة ؟ وتأخذَ مني مهرها عشرة آلاف دينار ..
لعل الله أن يرزقه الشهادة .. فيكون شفيعاً لي ولأبيه في القيامة ..
فقال عبد الواحد : لئن فعلت .. فأرجو والله أن تفوزوا فوزاً عظيماً ..
فصاحت العجوز : يا إبراهيم .. يا إبراهيم ..
فوثب شاب نضر .. من وسط الناس .. وقال : لبيك يا أماه ..
فقالت : أي بنيَّ .. أرضيت بهذه الجارية .. زوجة لك .. ومهرها أن تبذل مهجتك في
سبيل الله .. ؟
فقال : أي والله يا أماه ..
فذهبت العجوز مسرعة إلى بيتها .. ثم جاءت بعشرة آلاف دينار ..
فوضعتها في حجر عبد الواحد .. ثم رفعت بصرها إلى السماء ..
وقالت : اللهم إني أشهدك .. أني زوجت ولدي من هذه الجارية ..
على أن يبذل مهجته في سبيلك .. فتقبله مني يا أرحم الراحمين ..
ثم قالت : يا أبا عبيد .. هذا مهر الجارية مني عشرةُ آلاف دينار ..
تجهَّز به وجهز الغزاة في سبيل الله ..
ثم انصرفت .. واشترت لولدها فرساً جيداً .. وسلاحاً حسناً ..
وأخذت تعد الأيام لرحيله ..
وهي تودعه غي كل نظرة تنظرها .. وكلمة تسمعها ..
والمجاهدون يعدون العدة للخروج ..
فلما حان وقت النفير خرج إبراهيم يعدو .. والمجاهدون حوله يتسابقون ..
والقراء حولهم يقرؤون :{ إن الله اشترى من .. }..
فلما أرادت فراق ولدها .. دفعت إليه كفناً .. وطيباً يطيب به الموتى
.. ثم نظرت إليه .. وكأنما هو قلبها يخرج من صدرها ..
ثم قالت :
يا بنيَّ .. إذا أردت لقاء العدو .. فالبس بهذا الكفن .. وتطيب بهذا الطيب ..
وإياك أن يراك الله مقصراً في سبيله ..
ثم ضمته إلى صدرها .. وكتمت من عبرتها .. وأخذت تشمه .. وتودعه .. وتقبله ..
ثم قالت : اذهب يا بنيّ .. فلا جمع الله بيني وبينك .. إلا بين يديه يوم القيامة ..
فمضى إبراهيم .. والعجوز تتبعه بصرها .. حتى غاب مع الجيش ..
فلما بلغوا بلاد العدو وبرز الناس للقتال .. أسرع إبراهيم إلى المقدمة ..
فابتدأ القتال .. ورميت النبال .. وتنافس البطال ..
أما إبراهيم .. فقد جال بين العدو وصال .. وقاتل قتال الأبطال ..
حتى قتل أكثر من ثلاثين من جيش العدو ..
فلما رأى العدو ذلك .. أقبل عليه جمع منهم .. هذا يطعنه .. وهذا يضربه .. وهذا
يدفعه .. وهو يقاوم .. ويقاتل .. حتى خارت قواه ووقع من فرسه .. فقتلوه ..
وانتصر المسلمون .. وهزم الكافرون ..
ثم رجع الجيش إلى البصرة ..
فلما وصلوا البصرة تلقاهم الناس .. الرجال .. والعجائز .. والأطفال ..
وأم إبراهيم بينهم .. تدور عيناها في القادمين ..
فلما رأت عبد الواحد .. قالت : يا أبا عبيد !
هل قبل الله هديتي فأهنا ؟ أم رُدت علي فأعزى ؟
فقال لها : بل قبل الله هديتك ..
وأرجو أن يكون ابنك الآن مع الشهداء يرزق ..
فصاحت قائلة :
الحمد لله .. الذي لم يخيب فيه ظني .. وتقبل نسكي مني .. وانصرفت إلى بيتها وحدها
.. بعدما فارقت ولدها .. يشتد شوقها .. فتأتي إلى فرشه فتشمها .. وإلى ثيابه
فتقلبها .. حتى نامت ..
فلما كان الغد :
جاءت أم إبراهيم إلى مجلس أبي عبيد وقالت :
السلام عليك يا أبا عبيد .. بشراك .. بشراك ..
فقال : لا زلت مبشرة بالخير يا أم إبراهيم .. ما خبرك ..؟
فقالت : رأيت البارحة ولدي إبراهيم .. في روضة حسناء ..
وعليه قبة خضراء .. وهو على سرير من اللؤلؤ .. وعلى رأسه تاج يتلألأ .. وإكليل يزهر

..
وهو يقول : يا أماه .. أبشري .. قد قُبل المهر .. وزُفت العروس ..
نعم ..
هؤلاء أقوام .. أيقنوا أنه لا مهرب من نزول الموت .. فسعوا إليه قبل أن يسعى إليهم
..
أحبّوا لقاء الله فأحبّ الله لقاءهم .. وبذلوا مهجهم رخيصة في سبيل الله تعالى ..
فما هو الجزاء ؟
{ ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتاً بل أحياء عند ربهم يرزقون *
فرحين بما آتاهم الله من فضله ويستبشرون بالذين لم يلحقوا بهم من خلفهم ألا خوف
عليهم ولا هم يحزنون * يستبشرون بنعمة من الله وفضل وأن الله لا يضيع أجر المؤمنين
* الذين استجابوا لله والرسول من بعد ما أصابهم القرح للذين أحسنوا منهم واتقوا أجر
عظيم } ..

نعم والله .. ذلك الفوز الكبير ..
إذا أوقفهم ربهم بين يديه .. فرحوا بما ماتوا عليه .. فيبيض وجوههم .. ويرفع
درجاتهم ..

بل كان الصالحون يفتنون في دينهم .. ويهددون بالموت .. فلا يلتفتون إليه ..
نفوسهم صامدة .. على غاية واحدة .. هي الموت على ما يرضي الله ..
فهم كما قال الله لهم : { يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تقاته ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون } ..
نعم .. ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون ..
- لما ربط الكفار خبيب بن عدي رضي الله عنه على جذع نخلة ليقتلوه .. لم يفزع .. ولم
يجزع .. بل أخذ ينظر إليهم ويقول :
لقد جمع الأحزاب حولي وألبوا قبائلهم واستجمعوا كل مجمع إلى الله أشكو غربتي ثم كربتي وما أرصد الأعداء لي عند مصرعي ولست أبالي حين أقتل مسلما على أي جنب كان في الله مصرعي وذلك في ذات الإله وان يشأ يبارك على أوصال شلوٍ ممزع - ولما دخل سعد بن أبي وقاص على ملك الفرس .. صرخ في وجهه وقال : جئتك بقوم يحبون الموت .. كما تحبون أنتم الحياة ..
- وفي معركة أحد يكثر القتل بالمسلمين .. وتتسابق سهام الكفار إلى رسول صلى الله عليه وسلم ..
فكان أبو طلحة رضي الله عنه يرفع صدره ويقول :
يا رسول الله لا يصيبك سهم .. نحري دون نحرك ..
نعم ما دام أن الموت في رضا الرحمن فمرحباً بالموت ..
* * * * * * * * * *
بل كانت المعاصي والشهوات .. والآثام والملذات ..
تعرض على الصالحين .. فلا يلتفتون إليها .. فيهددون بالموت .. فيختارونه .. فربهم
أعظم عندهم من كل شيء ..
ذكر ابن كثير وغيره :
أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه بعث جيشاً لحرب الروم ..
وكان من ضمن هذا الجيش .. شاب من الصحابة .. هو عبد الله بن حذافه رضي الله عنه ..
وطال القتال بين المسلمين والروم .. وعجب قيصرُ ملكُ الروم من ثبات المسلمين ..
وجرأتهم على الموت ..
فأمر أن يحضر إليه أسير من المسلمين ..
فجاءوا بعبد الله بن حذافة .. يجرونه .. الأغلال في يديه .. والقيود في قدميه ..
فأوقفوه أمام الملك ..
فتحدث قيصر معه فأعجب بذكائه وفطنته ..
فقال له : تنصر .. وأطلقك من الأسر ..
فقال عبد الله : لا ..
فقال قيصر : تنصر .. وأعطيك نصف ملكي ..
فقال : لا ..
فقال : تنصر .. وأعطيك نصف ملكي .. وأشركك في الحكم معي ..
فقال عبد الله : والله لو أعطيتني ملكك .. وملك آبائك .. وملك العرب والعجم .. على
أن أرجع عن ديني طرفة عين ما فعلت ..
فغضب قيصر .. وقال : أذن أقتلك ..
قال : اقتلني ..
فأمر قيصر به فسحب .. وعلق على خشبة ..
وجاء قيصر .. وأمر الرماة .. أن يرموا السهام حوله ولا يصيبوه ..
وهو في أثناء ذلك يعرض عليه النصرانية .. وهو يأبى .. وينتظر الموت ..
فلما رأى قيصر إصراره ..
أمر أن يمضوا به إلى الحبس ..
ففكوا وثاقه ومضوا به إلى الحبس .. وأمر أن يمنعوا عنه الطعام والشراب .. فمنعوهما
..
حتى إذا كاد أن يهلك من الظمأ والجوع ..
أحضروا له خمراً .. ولحم خنزير ..
فلما رآهما عبد الله .. قال : والله إني لأعلم أن ذلك يحل لي في ديني .. ولكني لا
أريد أن يشمت بي الكفار .. فلم يقرب الطعام ..
فأخبر قيصر بذلك .. فأمر له بطعام حسن ..
ثم أمر أن تدخل عليه امرأة حسناء تتعرض له بالفاحشة ..
فأدخلت عليه .. وجعلت تتعرض له وهو معرض عنها ..
وهي تتمايل أمامه ولا يلتفت إليها ..
فلما رأت المرأة ذلك .. خرجت غضبى وهي تقول :
والله لقد أدخلتموني على رجل .. لا أدري أهو بشر أم حجر ..
وهو والله لا يدري عني أأنا أنثى أم ذكر ..
فلما يئس منه قيصر .. أمر بقدر من نحاس .. فأغلي فيها الزيت ..
ثم أوقف عبد الله بن حذافة أمامها ..
وأحضروا أحد الأسرى المسلمين موثقاً بالقيود .. حتى ألقوه في هذا الزيت .. وغاب
جسده في الزيت .. ومات .. وطفت عظامه تتقلب في فوق الزيت ..
وعبد الله ينظر إلى العظام .. فالتفت قيصر إلى عبد الله .. وعرض عليه النصرانية ..
فأبى ..
فاشتد غضب قيصر .. وأمر بطرحه في القدر ..
فلما جروه إلى القدر .. وشعر بحرارة النار .. بكى .. ودمعت عيناه ..
ففرح قيصر .. وقال :
تتنصر .. وأعطيك .. وأمنحك ..
قال : لا ..
قال : إذاً .. لماذا بكيت ..
فقال عبد الله : أبكي لأنه ليس لي إلا نفس واحدة تلقى في هذا القدر .. فتموت ..
ولقد وددت والله أن لي مائة نفس كلها تموت في سبيل الله .. مثل هذه الموتة ..
فقال له قيصر : قبل رأسي وأخلي عنك ؟
فقال له عبد الله : وعن جميع أسارى المسلمين عندك ..
قال : نعم ..
فقبل رأسه .. ثم أطلقه مع الأسرى ..
عجباً !! لله دره !!
أين نحن اليوم من مثل هذا الثبات .. ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون ..
إن من المسلمين اليوم .. من يتنازل عن دينه .. لأجل دراهم معدودات .. أو تتبع
الشهوات .. أو الولوغ في الملذات .. ثم يختم له بالسوء والعياذ بالله ..
* * * * * * * * * *
ومن عدل الله تعالى أن العبد يختم له في الغالب على ما عاش عليه ..
فمن كان في حياته يشتغل بالذكر والقيام .. والصدقات والصيام .. ختم له بالصالحات ..
ومن تولى وأعرض عن الخير .. خشي عليه أن يموت على ما اعتاد عليه ..
ولأجل هذا الفرق العظيم .. كان الصالحون يستعدون للموت قبل نزوله ..
بل يغتنم أحدهم آخر الأنفاس واللحظات .. في التزود ورفع الدرجات ..
فتجده يجاهد .. ويأمر بالمعروف .. وينهى عن المنكر .. ويشتغل بالطاعات .. إلى آخر
نفس يتنفسه ..
ثبت الصحيحين وغيرهما ..
أن النبي صلى الله عليه وسلم بعدما رجع من حجة الوداع ..
جعل مرض الموت يشتد عليه .. يوماً بعد يوم .. وهو في كلمة يتكلمها .. ونظرة ينظرها
.. يودع هذه الدار ..
ولما اشتدت عليه الحمى .. وأيقن النقلة للدار الأخرى ..
أراد أن يودع الناس ..




إذا كان الجمال .. كل الجمال يكمن في العيون وسحرهـا ،
ماذا يفعل الجمال إذا حان وقت النوم؟